الأحد، 20 ديسمبر 2009

فى أى زمان نحن؟

ضوء الليزر الذي يقطع ويضرب ويدمِّر لا يختلف كثيرًا عن ضوء الفلورسنت الذي يتلاشى بعد عدَّة أمتار، فكلاهما ضوءٌ، وفكرة إنتاجهما قريبة الشبَه، فكلاهما ضوْء مكوَّن من فوتونات صغيرة، ولكن الفارق الرَّئيس بين الليزر والفلورسنت: أنَّ فوتونات الليزر كلَّها في اتِّجاه واحد، وكلّها ذات تردُّد واحد أو لون واحد أو طيف واحد، أمَّا الفلورسنت ففوتوناته في كل الاتِّجاهات، وبأطْياف شتَّى تَمتزج فتُعطينا ضوء الفلورسنت المعروف.






ونحن نرى في زمانِنا هذا صحوة إسلامية واضحة، صحْوة غالية عزيزة، عزَّت لأنَّها جاءتْ بعد طول انتِظار، عليْنا أن نعَضَّ عليْها بنواجذِنا حتَّى لا تخبو وتنطفئ؛ ولكن هذه الصَّحوة - وللأسَف الشَّديد - كضوء الفلورسنت باتِّجاهات شتى وبأطياف شتى، كلّ أفرادِها يسيرون - أو هكذا يظنون - خلف رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - كلّ منهُم يفعَل فِعلاً فعَلَه رسولُ الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم.

ولكنَّ الفعل الواحد قد يفعله الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يومًا، ويأمر بتركه يومًا آخر؛ فالصيام مثلاً قد يتغيَّر من فرْضٍ يأثَم تاركه إلى حرام يأثَم فاعله.

فالصيام في رمضان فرض، وفي ستّ شوَّال مثلاً سنَّة، وفي الجمعة مثلاً مكروه، وفي العيدَين وأيَّام التَّشريق حرام، ومُباح في غير ذلك.

فالفعل يتغيَّر من النَّقيض إلى النَّقيض بتغيُّر زمانه وملابساتِه؛ بل قد يكون الصَّوم في رمضان حرامًا؛ كما قال - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عن الَّذين صاموا في فتْح مكَّة: ((أولئِك العصاة)).

وتشتُّت أطياف الصَّحوة ناتِجٌ من اختِلافهم في تَحديد الزَّمان الذي نحن فيه، فمنْهُم مَن يظنُّ أنَّنا في العيدَين فيحرِّم الصيام، ومنهم مَن يظنّ أنَّنا في رمضان فيوجب الصيام، فمشكلتُنا هي تَحديد الزَّمان الذي نحن فيه حتَّى نحدِّد ما يلائِمه من أفعال، وحتَّى لا نجهد أنفسَنا عند كل حالة وموقف وفعل ونسأل: في أي زمان نحن؟

دعونا نتَّفق على وسائل للقياس إنِ اتَّفقنا عليْها كان من السَّهل عليْنا تحديد المرحلة التى نحنُ فيها؛ فتحديد وسائل القياس والاتِّفاق عليها سيُسهل عليْنا تَحديد المرْحلة اليوم وغدًا، وبعْد سنة وبعْد عشْر سنين، وهذا أفضل من أن نتجادل اليوم كثيرًا لتحْديد المرحلة، وغدًا يبدأ خلاف جديد على مرحلة الغدِ، وفي كل مرحلة خلاف على تحديدها.

وأوَّل وسائل القِياس هذه ألاّ نحدِّد قراءتَنا قبل القياس؛ بل نعرفها نتيجةً للقياس؛ بمعنى آخر: ألا يكون لديْنا تحديد مسبق لمرْحلة نُريدها، نرغبها، ونهواها، ونُريد أن نثبت أنَّنا في هذه المرْحلة، ولكن دعونا نصِل من المقدّمات إلى النتائج، دعونا مِن فِعْل ما نَهوى فعْلَه ثمَّ نبحث له عن مبرِّرات، ولكن عليْنا أن نستنتِج أفعالنا بناء على ما لديْنا من معطيات وشرائع.

أمَّا الثانية، فلنتَّفق على السمات التى تميِّز مراحل دعوة الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - السّمات المُتباينة تبايُنًا واضِحًا لا يَحدُث معه لبس بين مرْحلة وأخرى، فلنحدِّد أوَّلاً سمات المراحِل الأساسيَّة والتي بيْنها تبايُن لا تُخطِئه العين.

فمرحلتا الدَّعوة الرَّئيستان - وهما مكَّة والمدينة - بيْنهما تبايُنٌ لا يَخفى على أحد، فمكَّة هي مرْحلة الإعداد، مرحلة العقيدة، والمدينة هي مرحلة الدَّولة، مرحلة التَّمكين.

ومِن أبرز سمات مرْحلة الإعداد:
مرحلة "بناء العقيدة"، أنَّها ليست مرحلة مواجهة مع الباطل، يمرُّ الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - على آلِ ياسرٍ وهم يعذَّبون، فماذا يفعل؟ لَم يُحاول رفْع العذابِ عنْهُم؛ لأنَّه أمر بالعفْو، ولكن يقول لهم: ((صبرًا آل ياسر؛ فإنَّ موعدكم الجنَّة)).

يأتي بعضُ الصَّحابة إلى رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - يُريدون الجهاد قائلين: كنَّا في عزَّة ونحن مشْرِكون، فلمَّا آمنَّا صِرْنا أذلَّة، فيقول - صلَّى الله عليْه وسلَّم -: ((إنِّي أمرت بالعفو فلا تقاتلوا القوم)).

هم يودُّون لو أُمِروا بالقتال ليتشفَّوا من أعدائِهم، هم يريدون القتال فهم مقهورون معذَّبون في ذلَّة: ياسر يعذَّب، وبلال على صدره الحجارة، وخبَّاب يكوى بالنار، فلماذا لا نقاتل؟! وإمَّا أن نرفع عنَّا الذّلَّة وعن إخواننا العذاب، وإمَّا أن ندخل الجنَّة، أوليْس قتلانا في الجنَّة وقتلاهم في النَّار؟! فلندخل الجنَّة إن لم نستطع أن نحيا في عزَّة.

ولكنَّ رسول الله - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ما بُعِث ليرفع عذابَ الدنيا عن بعْض الناس وهم موعدُهم الجنَّة؛ ولكنَّه بُعِث ليرفع عذابَ الآخِرة عن كلِّ النَّاس وإن عذِّب بعضهم في الدنيا؛ لذلك نراه يَحزن لموْت يهودي؛ لأنَّ نفسًا ذهبتْ إلى النَّار.

ما بُعِثَ ليرفع عذابَ الدُّنيا عن ياسر وبلال وخبَّاب، وهم موعدُهم الجنَّة، ولكن ليرْفَعَ عذاب الآخِرة عنْهم، وعن حَمزة وعُمر ومصعب وحنظلة، وسعدٍ وعمرٍو وخالدٍ وعكرمةَ، وأبي سُفيان ويزيدَ ومعاويةَ وهند، ووحْشي قاتل حمزة.

نعم، ليرفع عذاب الآخِرة عن حمزة وعن قاتله!

فمكَّة هي مرحلة العقيدة، العقيدة قبل المواجهة؛ "لأنَّ العقيدة هي السّلاح الأوَّل في المعركة، ولأنَّ الأداة الحربيَّة في يد الجندي الخائر العقيدة لا تساوي شيئًا كثيرًا في ساعة الشّدَّة".

أمَّا المدينة فهي مرحلة الدَّولة الإسلاميَّة، وقائدها محمَّد - صلَّى الله عليْه وسلَّم - ووزيراه أبو بكر وعمر، في المدينة يعلم الرَّسول - صلَّى الله عليْه وسلَّم - الصَّحابة دينَهم علانية في المسجِد، لا خفية في دار الأرْقم، في دوْلة الإسلام بالمدينة غالب الشَّعب من المهاجرين والأنصار، في المدينة يعاهد الرَّسول اليهود العهْد الذي نعْرِفه جميعًا، وما حدث من خِلاف أو شجار بين أهل هذا العهْد، فإنَّ مردَّه لله وللرسول.

ما الذي جعل المدينة دولةً للمسلمين، الكلمة فيها لهم؟ لأنَّ بها أنصارًا، وما الذي جعل الأنصار أنصارًا؟ لأنَّهم من قبل ذلك لاقَوه - صلَّى الله عليْه وسلَّم - عرَض عليهم الإسلام فأسلموا، بايعَهم أوَّلاً على ألاَّ يُشْرِكوا بالله شيئًا، ولا يسرِقوا ولا يزنوا ولا يقتلوا أولادهم، ولا يأتوا ببهتانٍ يفترونه من بين أيديهم وأرجُلهم، ولا يعصوه في معروف، فإن وفَوا فلهم الجنَّة، هكذا كانت بيْعة العقبة الأولى، بيعة بلا جِهاد، بيْعة النِّساء كما تسمَّى.

وأرْسل لهم مصعبًا الذي كان يُدعى المقرئ، لا السياسي ولا العسكري - وهو كذلك - أرْسَلَه يُقْرِئهم القُرآن ويُعلِّمُهم الإسلام ويفقِّهُهم في الدين.

ثمَّ بعد ذلك يبايعونه بيعتَهم الثَّانية، على أن ينصروه إذا قدِم إليْهِم، ويمنعوه ممَّا يمنعون منه نساءَهم وأولادهم، وسينتج عن ذلك قطْع حبالهم مع اليهود، سينتج عن ذلك قتال الأحْمر والأسود من الناس، فيجيبونه بأنَّهم أهل الحرب والحلقة ورِثوها كابرًا عن كابر، القتال حِرْفتهم، ولكنَّهم يُريدون عقيدة فيُصبح هذا القتال في سبيل الله، فعندما وجد الأنصار وُجِدَت الدولة بالمهاجرين والأنصار، فلا دوْلة بالعقيدة وحدها، ولا دولة بالجهاد وحْده.

هذه هي سمات مكَّة وهذه هي سمات المدينة، التبايُن بيْنهما واضح لا يُمكن أن يخطئ إنسانٌ في تحْديد مرحلته هل هي مكة أم المدينة؟

وعليْنا أن نفعل فعل مكَّة في مكَّة وفعل المدينة في المدينة، بنيَّة خالصة لله - عزَّ وجلَّ - بدون غايات وبدون مقاصد، إن كنت تصوم لله فصُم حين أمرك وكفَّ حين نَهاك، فإن صُمْتَ وَفْق هواك فصيامك ليس لله.

إن كنتَ تُجاهد لله فجاهِدْ حين أمرك ولا تقُل: لولا أخَّرتنا إلى أجل قريب، وكفَّ حين نَهاك ولا تقُل: صرنا أذلَّة، فالَّذين يُجاهدون في مكَّة ويَصومون في فتْح مكَّة "أولئك العصاة"، بالرَّغم من أنَّ الجهاد والصِّيام من أعظم الأعْمال، ولكنَّ الله غنيٌّ عنَّا وعن صيامِنا وعن جهادِنا، فلنضعْه حيث أمرنا، فلتُجاهد لتكون كلِمة الله هي العليا، ولا تُجاهد لأنَّك مقهور مظْلوم مستضعَف؛ لأنَّك لئن فعلتَ لَيحبطنَّ عملك.

فلتكُنْ كالمقرئ، كمصعب الذي دخل الإسلام لا لشيء إلاَّ الإسلام، مصعب: فتى قريش، المدلَّل من والديه، الذي لم يدخُل الإسلام هروبًا من فشَل، ولا خلاصًا من قهْر، ولا رغبةً في سيادة ولا طمعًا في تَمكين، إسلامُه سينقله من الثَّراء إلى الفقْر، ومن العزَّة إلى الاستِضْعاف، ومن الرَّاحة إلى الجهاد، هان كلُّ ذلك في نظرِه واختار الإسلام، ترك تَرَفَه ونعيمه واتَّبع الرَّسول المكذَّب المُطارَد المحارب الفقيرَ المستضعَف، اتَّبعه كما أمره هو - صلَّى الله عليْه وسلَّم - فكان مربِّيًا في وقْت الإعداد، ومجاهدًا في وقْت الجهاد، جهاد للنَّصر أوَّلاً قبل الشَّهادة، عفا في مكَّة ولم يُقاتل في وقْت العفْو، علَّم الأنصار عقيدتَهم في وقت بناء العقيدة، جاهد في وقت الجهاد، انتَصَر - رضوان الله عليه - في بدْرٍ واستُشْهِد في أحد، وما نال من الدُّنيا شيئًا وما رأى تَمكينًا.

أين كان مصعب في فتْح مكَّة؟ كان مدفونًا تحت الثَّرى، وكذلك كلُّ أساسٍ مدفونٌ تَحت الأرض، كلّ بناء شامخٍ أساسُه تحت الأرض لا يراه أحد.

أين كان عبدالله بن ياسين مؤسّس دولة المرابطين وقْت الزلاَّقة، التي انتصر فيها المرابِطون على الأسبان الصليبيِّين؟ كان مدفونًا تحت الأرْض، ولكن ما فعله المرابِطون في الزلاَّقة في ميزان عبدالله بن ياسين - رحمه الله.

منشور بموقع الألوكة على هذا الرابط